فصل: تفسير الآية رقم (33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة النجم

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى‏}‏ قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي‏:‏ يعني الثريا إذا سقطت وغابت، وهُويُّه مَغِيبه والعرب تسمي الثريا نجمًا‏.‏

وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا‏:‏ ‏"‏ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رُفع‏"‏ وأراد بالنجم الثريا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هي نجوم السماء كلها حين تغرب لفظه واحد ومعناه الجمع، سمي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال‏:‏ نَجَمَ السِّنُّ والقرنُ والنبتُ‏:‏ إذا طلع‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أنه الرجوم من النجوم يعني ما تُرمى به الشياطين عند استراقهم السمع‏.‏

وقال أبو حمزة الثمالي‏:‏ هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنجم القرآن سمي نجمًا لأنه نزل نجومًا متفرقة في عشرين سنة، وسمي التفريق‏:‏ تنجيمًا، والمفرَّق‏:‏ مُنَجَّمًا، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وهو قول الكلبي‏.‏

‏"‏الهُوِّيُّ‏"‏‏:‏ النزول من أعلى إلى أسفل‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ‏"‏النجم‏"‏ هو النبت الذي لا ساق له، ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏والنجم والشجر يسجدان‏"‏ ‏[‏الرحمن - 6‏]‏، وهُويُّه سقوطه على الأرض‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم إذ نزل من السماء ليلة المعراج، و‏"‏الهوي‏"‏‏:‏ النزول، يقال‏:‏ هوى يهوي هويًا ‏[‏إذا نزل‏]‏ مثل مضى يمضي مضيًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 7‏]‏

‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏ إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

وجواب القسم‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم ما ضل عن طريق الهدى ‏{‏وَمَا غَوَى‏.‏ ‏}‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى‏}‏ أي‏:‏ بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول القرآن من تلقاء نفسه‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ ما نطقه في الدين، وقيل‏:‏ القرآن ‏{‏إِلا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ أي‏:‏ وحي من الله يوحى إليه‏.‏

‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏}‏ جبريل، والقوى جمع القوة‏.‏

‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ قوة وشدة في خلقه يعني جبريل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ذو مرة يعني‏:‏ ذو منظر حسن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ذو خلق طويل حسن‏.‏ ‏{‏فَاسْتَوَى‏}‏ يعني‏:‏ جبريل‏.‏

‏{‏وَهُو‏}‏ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون استوى هو وفلان، وقلما يقولون‏:‏ استوى وفلان نظير هذا قوله‏:‏ ‏"‏أئذا كنا ترابا وآباؤنا‏"‏ ‏[‏النمل - 67‏]‏ عطف الآباء على المكنى في ‏"‏كنَّا‏"‏ من غير إظهار نحن، ومعنى الآية‏:‏ استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج ‏{‏بِالأفُقِ الأعْلَى‏}‏ وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس، وقيل‏:‏ ‏"‏فاستوى‏"‏ يعني جبريل، وهو كناية عن جبريل أيضا أي‏:‏ قام في صورته التي خلقه الله، وهو بالأفق الأعلى، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على الصورة التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين‏:‏ مرة في الأرض ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق، وذلك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشيًا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، وهو قوله‏:‏ ‏"‏ثم دنا فتدلى‏"‏ وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 9‏]‏

‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ اختلفوا في معناه‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال‏:‏ قلت لعائشة فأين قوله‏:‏ ‏"‏ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى‏"‏‏؟‏ قالت‏:‏ ‏"‏ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ الأفق‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا طلق بن غنام، حدثنا زائدة عن الشيباني قال‏:‏ سألت زِرًّا عن قوله‏:‏ ‏"‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏"‏، قال‏:‏ أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ‏"‏فتدلى‏"‏ فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان منه ‏"‏قاب قوسين أو أدنى‏"‏، بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة، قيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير تقديره‏:‏ ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ثم دنا الربُّ عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى‏.‏ وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبدالله عن أنس‏:‏ ودنا الجبار ربُّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى‏.‏ وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس، ‏"‏والتدلي‏"‏ هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دنا جبريل من ربه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه فتدلى فأهوى للسجود، فكان منه قاب قوسين أو أدنى‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏قاب قوسين‏"‏ أي قدر قوسين، و‏"‏القاب‏"‏ و‏"‏القيب‏"‏ و‏"‏القاد‏"‏ و‏"‏القيد‏"‏‏:‏ عبارة عن المقدار، و‏"‏القوس‏"‏‏:‏ ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين، قال مجاهد‏:‏ معناه حيث الوَتَر من القوس، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب‏.‏ وأصله‏:‏ أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏"‏قاب قوسين‏"‏ أي‏:‏ قدر ذراعين، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة، و‏"‏القوس‏"‏‏:‏ الذراع يقاس بها كل شيء، ‏"‏أو أدنى‏"‏‏:‏ بل أقرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْحَى‏}‏ أي‏:‏ أوحى الله ‏{‏إِلَى عَبْدِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، والحسن، والربيع، وابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه عز وجل‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ أوحى إليه‏:‏ ‏"‏ألم يجدك يتيمًا فآوى‏"‏ ‏[‏الضحى - 6‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ورفعنا لك ذكرك‏"‏، ‏[‏الشرح - 4‏]‏ وقيل‏:‏ أوحى إليه‏:‏ إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏}‏ قرأ أبو جعفر ‏"‏ما كذَّب الفؤاد‏"‏ بتشديد الذال أي‏:‏ ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه، وقرأ الآخرون بالتخفيف أي‏:‏ ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى بل صدقه، يقال‏:‏ كذبه إذا قال له الكذب مجازه‏:‏ ما كذب الفؤاد فيما رأى، واختلفوا في الذي رآه، فقال قوم‏:‏ رأى جبريل، وهو قول ابن مسعود وعائشة‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبدالغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص هو ابن غياث عن الشيباني عن زِرٍّ عن عبدالله قال‏:‏ ‏"‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏"‏ قال‏:‏ رأى جبريل له ستمائة جناح‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو الله عز وجل‏.‏ ثم اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم‏:‏ جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده، وهو قول ابن عباس‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبدالغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن حجاج، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏"‏‏.‏ ‏"‏ولقد رآه نزلة أخرى‏"‏ قال‏:‏ رآه بفؤاده مرتين‏.‏

وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة، قالوا‏:‏ رأى محمد ربه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله اصطفى إبراهيم بالخُلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية‏.‏

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ لم يَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، وتحمل الآية على رؤيته جبريل عليه السلام‏:‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد ابن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال‏:‏ قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه‏؟‏ فقالت‏:‏ لقد قفَّ شعري مما قلت‏:‏ أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب‏؟‏ من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ ‏"‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏"‏، ‏[‏الأنعام - 103‏]‏ ‏"‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب‏"‏ ‏[‏الشورى - 51‏]‏ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ ‏"‏وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا‏"‏ ‏[‏لقمان - 34‏]‏ ومن حدثك أنه كتم شيئًا فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ ‏"‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏"‏ ‏[‏المائدة - 67‏]‏ الآية، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبدالله بن ‏[‏شقيق‏]‏ عن أبي ذر قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل رأيتَ رَبَّكَ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نورٌ أَنَّى أراه‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 14‏]‏

‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب‏:‏ ‏"‏أفتمرونه‏"‏ بفتح التاء ‏[‏وسكون الميم‏]‏ بلا ألف، أي‏:‏ أفتجحدونه، تقول العرب‏:‏ مريتَ الرجلَ حقَّه إذا جحدته، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏أفتمارونه‏"‏ بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا‏:‏ صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به، والمعنى‏:‏ أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى‏}‏ يعني‏:‏ رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى، وذلك أنه رآه في صورته مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء‏.‏

‏{‏عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى‏}‏ وعلى قول ابن عباس معنى‏:‏ ‏"‏نزلة أخرى‏"‏ هو أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسأله التخفيف من أعداد الصلوات، فيكون لكل عرجة نزلة، فرأى ربه في بعضها، وروينا عنه‏:‏ ‏"‏أنه رأى ربه بفؤاده مرتين‏"‏ وعنه‏:‏ ‏"‏أنه رأى بعينه‏"‏ قوله‏:‏ ‏"‏عند سدرة المنتهى‏"‏ روينا عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال تعالى‏:‏ ‏"‏عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى‏"‏، قال‏:‏ فراش من ذهب‏.‏

وروينا في حديث المعراج‏:‏ ‏"‏ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‏"‏‏.‏

‏"‏والسدرة‏"‏ شجرة النبق، وقيل لها‏:‏ سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق‏.‏ قال هلال بن ‏[‏يساف‏]‏‏:‏ سأل ابن عباس كعبًا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر، فقال كعب‏:‏ إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا المسوحي، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سدرة المنتهى، قال‏:‏ ‏"‏يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام ويستظل في الفنن منها مائة ألف راكب، فيها فراش من ذهب، كأن ثمرها القلال‏"‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 18‏]‏

‏{‏عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ جنة يأوي إليها جبريل والملائكة‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ يأوي إليها أرواح الشهداء‏.‏

‏{‏إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ فراش من ذهب‏.‏

وروينا في حديث المعراج عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشى من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، وأوحى إليّ ما أوحى ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة‏"‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ تغشاها الملائكة أمثال الغربان وقال السدي‏:‏ من الطيور‏.‏ وروي عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله عنه أو غيره قال‏:‏ غشيها نور الخلائق وغشيتها الملائكة من حب الله أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة‏.‏ قال‏:‏ فكلمه عند ذلك، فقال له‏:‏ سل‏.‏ وعن الحسن قال‏:‏ غشيها نور رب العزة فاستنارت‏.‏ ويروى في الحديث‏:‏ ‏"‏رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله تعالى‏"‏‏.‏

‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏ أي‏:‏ ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا ولا شمالا وما طغى، أي ما جاوز ما رأى‏.‏ وقيل‏:‏ ما جاوز ما أمر به وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبًا‏.‏

‏{‏لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى‏}‏ يعني‏:‏ الآيات العظام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره وعوده، دليله قوله‏:‏ ‏"‏لنريه من آياتنا‏"‏، ‏[‏الإسراء - 1‏]‏ وقيل‏:‏ معناه لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبدالغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن سليمان الشيباني سمع زر بن حبيش عن عبدالله قال‏:‏ لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال‏:‏ رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح‏.‏

وأخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمرو، حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ‏[‏عن عبدالله‏]‏ ‏"‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ رأى رفرفًا أخضر سَدَّ أُفُقَ السماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى‏}‏ هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله‏:‏ اللات، ومن العزيز‏:‏ العزى‏.‏ وقيل‏:‏ العزى‏:‏ تأنيث الأعز، أما ‏"‏اللات‏"‏ قال قتادة‏:‏ كانت بالطائف، وقال ابن زيد‏:‏ بيت بنخلة كانت قريش تعبده‏.‏

وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح‏:‏ ‏"‏اللات‏"‏ بتشديد التاء، وقالوا‏:‏ كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط، ويجمع رِسْلَها ثم يتخذ منها حيسًا فيطعم منه الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم، وكان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلت به أسوقتهم، فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها فعبدتها، فسدرة الطائف على موضع اللات‏.‏

وأما ‏"‏العزى‏"‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول‏:‏

يا عزّ كفرانَك لا سبحانَك

إني رأيت اللهَ قد أهانَك

فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها‏.‏

ويقال‏:‏ إن خالدًا رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قد قلعتها، فقال‏:‏ ما رأيت‏؟‏ قال‏:‏ ما رأيت شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما قلعت، فعاودها فعاد إليها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة، فقتلها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال‏:‏ ‏"‏تلك العزى ولن تعبد أبدا‏"‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى بطن نخلة، وقال لقومه‏:‏ إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم، ولهم إله يعبدونه وليس لكم، قالوا‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة ونقلهما إلى نخلة، فوضع الذي أخذ من الصفا، فقال‏:‏ هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذه من المروة، فقال‏:‏ هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة، فقال‏:‏ هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة، حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنَاة‏}‏ قرأ ابن كثير بالمد والهمزة، وقرأ العامة بالقصر غير مهموز، لأن العرب سَمَّتْ زيد مناة وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد‏.‏ قال قتادة‏:‏ هي لخزاعة كانت بقديد، قالت عائشة رضي الله عنها في الأنصار‏:‏ كانوا يهلون لمناة، وكانت حذو قديد‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب‏.‏ قال الضحاك‏:‏ مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ اللات والعزى ومناة‏:‏ أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها‏.‏

واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة‏:‏ فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما كتب في المصحف بالتاء يوقف عليه بالتاء، وما كتب بالهاء فيوقف عليه بالهاء‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏الثَّالِثَةَ الأخْرَى‏}‏ ‏[‏فالثالثة‏]‏ نعت لمناة، أي‏:‏ الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى، إنما الأخرى هاهنا نعت للثانية‏.‏ قال الخليل‏:‏ فالياء لوفاق رؤوس الآي، كقوله‏:‏ ‏"‏مآرب أخرى‏"‏ ‏[‏طه - 18‏]‏ ولم يقل‏:‏ أخر‏.‏ وقيل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير تقديرها‏:‏ أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ ‏"‏أفرأيتم‏"‏‏:‏ أخبرونا يا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله، قال الكلبي‏:‏ كان المشركون بمكة يقولون‏:‏ الأصنام والملائكة بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 23‏]‏

‏{‏أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏‏}‏

فقال الله تعالى منكرًا عليهم‏:‏ ‏{‏أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم‏.‏ قال مجاهد ومقاتل‏:‏ قسمة عوجاء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ غير معتدلة‏.‏

قرأ ابن كثير‏:‏ ‏"‏ضئزى‏"‏ بالهمز، وقرأ الآخرون بغير همز‏.‏

قال الكسائي‏:‏ يقال منه ضاز يضيز ضيزًا، وضاز يضوز ضوزًا، وضاز يُضَاز ضازًا إذا ظلم ونقص، وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء، لأنها صفة والصفات لا تكون إلا على فعلى بضم الفاء، نحو حبلى وأنثى وبشرى، أو فعلى بفتح الفاء، نحو غضبى وسكرى وعطشى، وليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت، إنما يكون في الأسماء، مثل‏:‏ ذكرى وشعرى، وكسر الضاد هاهنا لئلا تنقلب الياء واوًا وهي من بنات الياء كما قالوا في جمع أبيض بيض، والأصل بوض مثل حمر وصفر، فأما من قال‏:‏ ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى‏.‏

‏{‏إِنْ هِيَ‏}‏ ما هذه الأصنام ‏{‏إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ حجة بما تقولون إنها آلهة‏.‏ ثم رجع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ‏}‏ في قولهم إنها آلهة ‏{‏وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ‏}‏ وما زين لهم الشيطان ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة، فإن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 30‏]‏

‏{‏أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى ‏(‏25‏)‏ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى‏}‏ أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام‏؟‏

‏{‏فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى‏}‏ ليس كما ظن الكافر وتمنى، بل لله الآخرة والأولى، لا يملك أحد فيهما شيئا إلا بإذنه‏.‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله ‏{‏لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ‏}‏ في الشفاعة ‏{‏لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏}‏ أي‏:‏ من أهل التوحيد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه‏.‏ وجمع الكناية في قوله‏:‏ ‏"‏شفاعتهم‏"‏ والملك واحد؛ لأن المراد من قوله‏:‏ ‏"‏وكم من ملك‏"‏ الكثرة، فهو كقوله‏:‏ ‏"‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏"‏ ‏[‏الحاقة - 47‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى‏}‏ أي‏:‏ بتسمية الأنثى حين قالوا‏:‏ إنهم بنات الله‏.‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ ‏[‏معناه‏]‏ ما يستيقنون أنهم ‏[‏بنات الله‏]‏ ‏{‏إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا‏}‏‏"‏والحق‏"‏ بمعنى العلم، أي‏:‏ لا يقوم الظن مقام العلم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏الحق‏"‏ بمعنى العذاب، ‏[‏أي‏:‏ أظنهم لا ينقذهم من العذاب شيء‏]‏‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا‏}‏ يعني القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان ‏{‏وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏.‏ ‏}‏‏.‏

ثم صغر رأيهم فقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ أي‏:‏ ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأنها تشفع لهم، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 32‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى‏}‏ أي‏:‏ هو عالم بالفريقين فيجازيهم‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا‏}‏ فاللام في قوله‏:‏ ‏"‏ليجزي‏"‏ متعلق بمعنى الآية الأولى؛ لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه، الذين أساؤوا وأشركوا‏:‏ بما عملوا من الشرك ‏{‏وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏}‏ وحدوا ربهم‏:‏ ‏"‏بالحسنى‏"‏ بالجنة‏.‏ وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك، ولذلك قال‏:‏ ‏"‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏"‏‏.‏ ثم وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ‏}‏ اختلفوا في معنى الآية، فقال قوم‏:‏ هذا استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية‏:‏ إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ‏[‏ومجاهد، والحسن‏]‏، ورواية عطاء عن ابن عباس‏.‏

قال عبدالله بن عمرو بن العاص‏:‏ اللمم ما دون الشرك‏.‏

وقال السدي قال أبو صالح‏:‏ سئلت عن قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏إلا اللمم‏"‏، فقلت‏:‏ هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس فقال‏:‏ لقد أعانك عليها ملك كريم‏.‏

وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏"‏إلا اللمم‏"‏، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنْ تغفرِ اللهمَّ تغفرْ جَمًّا وأيّ عبدٍ لك لا ألمّا‏"‏‏.‏

وأصل ‏"‏اللمم والإلمام‏"‏‏:‏ ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون إعادة، ولا إقامة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هذا استثناء منقطع، مجازه‏:‏ لكن اللمم، ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم‏:‏ هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين‏:‏ إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ومسروق، والشعبي، ورواية طاووس عن ابن عباس‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمود بن غيلان، أخبرنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال‏:‏ ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه‏"‏‏.‏

ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد‏:‏ ‏"‏العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد ‏[‏زناها‏]‏ البطش، والرجل زناها الخطى‏"‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ ‏"‏اللمم‏"‏ على وجهين‏:‏ كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًّا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش، والوجه الآخر هو‏:‏ الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ هو ما لَمَّ على القلب أي خطر‏.‏

وقال الحسين بن الفضل‏:‏ ‏"‏اللمم‏"‏ النظرة من غير تعمدٍ، فهو مغفور، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمن فعل ذلك وتاب، تم الكلام هاهنا، ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ‏}‏ أي خلق أباكم آدم من التراب ‏{‏وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ‏}‏ جمع جنين، سمي جنينًا لاجتنانه في البطن ‏{‏فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تمدحوها‏.‏ قال الحسن‏:‏ علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، لا تبرؤوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها‏.‏

قال الكلبي ومقاتل‏:‏ كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون‏:‏ صلاتنا وصيامنا وحجنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ أي‏:‏ بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى‏}‏ نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له‏:‏ أتركت دين الأشياخ وضللتهم‏؟‏ قال‏:‏ إني خشيت عذاب الله، فضمن الذي عاتبه إن هو ‏[‏وافقه‏]‏ أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل

عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله عز وجل ‏"‏أفرأيت الذي تولى‏"‏ أدبر عن الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 37‏]‏

‏{‏وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعْطَى‏}‏ صاحبه ‏{‏قَلِيلا وَأَكْدَى‏}‏ بخل بالباقي‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ ‏"‏أعطى‏"‏ يعني الوليد ‏"‏قليلا‏"‏ من الخير بلسانه، ثم ‏"‏أكدى‏"‏‏:‏ يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية‏.‏

وقال السدي‏:‏ نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال‏:‏ والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله‏:‏ ‏"‏وأعطى قليلا وأكدى‏"‏ أي لم يؤمن به، ومعنى ‏"‏أكدى‏"‏‏:‏ يعني قطع، وأصله من الكدية، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر، تقول العرب‏:‏ أكدى الحافر وأجبل، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل‏.‏

‏{‏أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى‏}‏ ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه‏.‏

‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ‏}‏ لم يخبر ‏{‏بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى‏}‏ يعني‏:‏ أسفار التوراة‏.‏

‏{‏وَإِبْرَاهِيم‏}‏ في صحف إبراهيم عليه السلام ‏{‏الَّذِي وَفَّى‏}‏ تمم وأكمل ما أمر به‏.‏

قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة‏:‏ عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه

قال مجاهد‏:‏ وَفَّى بما فرض عليه‏.‏

قال الربيع‏:‏ وفى رؤياه وقام بذبح ابنه‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ استكمل الطاعة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ وفَّى سهام الإسلام‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏"‏وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن‏"‏، ‏[‏البقرة - 124‏]‏ والتوفية الإتمام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ وفَّى ميثاق المناسك‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبدالله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري، حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إبراهيم الذي وفى ‏[‏صلى‏]‏ أربع ركعات أول النهار‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو جعفر الشيباني، حدثنا أبو مسهر، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال‏:‏ ‏"‏ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏‏}‏

ثم بيَّن ما في صحفهما فقال‏:‏ ‏{‏أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ أي‏:‏ لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه‏:‏ لا تؤخذ نفس بإثم غيرها‏.‏ وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة بأنه يحمل عنه الإثم‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده، حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله‏:‏ ‏"‏ألا تزر وازرة وزر أخرى‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى‏}‏ أي‏:‏ عمل، كقوله‏:‏ ‏"‏إن سعيكم لشتى‏"‏، ‏[‏الليل - 4‏]‏ وهذا أيضًا في صحف إبراهيم وموسى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، بقوله‏:‏ ‏"‏ألحقنا بهم ذريتهم‏"‏، ‏[‏الطور - 21‏]‏ فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم، لما روي أن امرأة رفعت صبيًا لها فقالت‏:‏ يا رسول الله ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم ولك أجر‏"‏‏.‏

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أمي افتلتت نفسها، فهل لها أجر إن تصدقت عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏"‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏"‏ يعني الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له‏.‏

وقيل‏:‏ ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير

ويروى أن عبد الله بن أبيّ كان أعطى العباس قميصًا ألبسه إياه، فلما مات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفنه فيه، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 42‏]‏

‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى ‏(‏41‏)‏ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى‏}‏ في ميزانه يوم القيامة، ‏[‏مأخوذة‏]‏ من‏:‏ أريته الشيء‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى‏}‏ الأكمل والأتم أي‏:‏ يجزى الإنسان بسعيه، يقال‏:‏ جزيت فلانا سعيه وبسعيه، قال الشاعر‏:‏

إنْ أجزِ علقمةَ بنَ سعدٍ سَعْيَه *** لم أجزِه ببلاءِ يومٍ واحدٍ

فجمع بين اللغتين‏.‏

‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى‏}‏ أي‏:‏ منتهى الخلق ومصيرهم إليه، وهو مجازيهم بأعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أخبرنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي، حدثنا علي بن محمد المصري، أخبرنا أبو إسحاق ابن منصور الصعدي، أخبرنا العباس بن زفر، عن أبي جعفر الرازي، عن أبيه عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏وأن إلى ربك المنتهى‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏لا فكرة في الرب‏"‏، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعًا‏:‏ ‏"‏تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق‏"‏ فإنه لا تحيط به الفكرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 47‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى‏}‏ فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء، قال مجاهد والكلبي‏:‏ أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر‏.‏

قال عطاء بن أبي مسلم‏:‏ يعني أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء‏.‏

أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا عبدالرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا قيس، هو ابن الربيع الأسدي، حدثنا سماك بن حرب قال‏:‏ قلت لجابر بن سمرة‏:‏ أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -‏.‏ وقال معمر عن قتادة‏:‏ سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون‏؟‏ قال‏:‏ نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ أي‏:‏ أمات في الدنيا وأحيا للبعث‏.‏ وقيل‏:‏ أمات الآباء وأحيا الأبناء‏.‏ وقيل‏:‏ أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى‏}‏ من كل حيوان‏.‏

‏{‏مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى‏}‏ أي‏:‏ تصب في الرحم، يقال‏:‏ منى الرجل وأمنى‏.‏ قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تقدر، يقال‏:‏ منيت الشيء إذا قدرته‏.‏

‏{‏وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى‏}‏ أي‏:‏ الخلق الثاني للبعث يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 50‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى‏}‏ قال أبو صالح‏:‏ أغنى الناس بالأموال وأقنى أي‏:‏ أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية‏.‏

قال الضحاك‏:‏ أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم‏.‏

وقال قتادة والحسن‏:‏ ‏"‏أقنى‏"‏‏:‏ أخدم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏أغنى وأقنى‏"‏‏:‏ أعطى فأرضى‏.‏

قال مجاهد ومقاتل‏:‏ ‏"‏أقنى‏"‏‏:‏ أرضى بما أعطى وقنع‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ‏"‏أغنى‏"‏‏:‏ أكثر ‏"‏وأقنى‏"‏‏:‏ أقل وقرأ‏:‏ ‏"‏يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏"‏، ‏[‏الإسراء - 30‏]‏ وقال الأخفش‏:‏ ‏"‏أقنى‏"‏‏:‏ أفقر‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ أولد‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى‏}‏ وهو كوكب خلف الجوزاء وهما شعريان، يقال لإحداهما العبور وللأخرى الغميصاء، سميت بذلك لأنها أخفى من الأخرى، والمجرة بينهما‏.‏ وأراد هاهنا الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبدها، وأول من سن لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها، وقال‏:‏ لأن النجوم تقطع السماء عرضًا والشعرى طولا فهي مخالفة لها، فعبدتها خزاعة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة لخلافه إياهم، كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى‏}‏ قرأ أهل المدينة والبصرة بلام مشددة بعد الدال، ويهمز وَاوَه قالون عن نافع، والعرب تفعل ذلك فتقول‏:‏ قم لان عنا، تريد‏:‏ قم الآن، ويكون الوقف عند ‏"‏عادا‏"‏، والابتداء ‏"‏أولى‏"‏، بهمزة واحدة مفتوحة بعدها لام مضمومة، ‏[‏ويجوز الابتداء‏:‏ لولى‏]‏ بحذف الهمزة المفتوحة‏.‏

وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏عادًا الأولى‏"‏، وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر، فكان لهم عقب، فكانوا عادًا الأخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 60‏]‏

‏{‏وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى ‏(‏56‏)‏ أَزِفَتِ الآزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَثَمُودَ‏}‏ قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة ‏{‏فَمَا أَبْقَى‏}‏ منهم أحدًا‏.‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى‏}‏ لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب‏.‏

‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ‏}‏ قرى قوم لوط ‏{‏أَهْوَى‏}‏ أسقط أي‏:‏ أهواها جبريل بعدما رفعها إلى السماء‏.‏

‏{‏فَغَشَّاهَا‏}‏ ألبسها الله ‏{‏مَا غَشَّى‏}‏ يعني‏:‏ الحجارة المنضودة المسومة‏.‏

‏{‏فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ‏}‏ نعم ربك أيها الإنسان، وقيل‏:‏ أراد الوليد بن المغيرة ‏{‏تَتَمَارَى‏}‏ تشك وتجادل، وقال ابن عباس‏:‏ تكذب‏.‏

‏{‏هَذَا نَذِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم ‏{‏مِنَ النُّذُرِ الأولَى‏}‏ أي‏:‏ رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وقال قتادة‏:‏ يقول‏:‏ أنذر محمد كما أنذر الرسل من قبله‏.‏

‏{‏أَزِفَتِ الآزِفَةُ‏}‏ دنت القيامة واقتربت الساعة‏.‏

‏{‏لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مظهرة مقيمة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏"‏، ‏[‏الأعراف - 187‏]‏ والهاء فيه للمبالغة أو على تقدير‏:‏ نفس كاشفة‏.‏ ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا كالخافية والعافية، والمعنى‏:‏ ليس لها من دون الله كاشف أي‏:‏ لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ليس لها راد يعني‏:‏ إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك‏.‏

‏{‏أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تَعْجَبُون وَتَضْحَكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ استهزاء ‏{‏وَلا تَبْكُونَ‏}‏ مما فيه من الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 - 62‏]‏

‏{‏وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ‏}‏ لاهون غافلون، و‏"‏السمود‏"‏‏:‏ الغفلة عن الشيء واللهو، يقال‏:‏ دع عنك سمودك أي لهوك، هذا رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال عكرمة عنه‏:‏ هو الغناء بلغة أهل اليمن، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أشِرُون بَطِرون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ غضاب مبرطمون‏.‏ فقيل له‏:‏ ما البرطمة‏؟‏ قال‏:‏ الإعراض‏.‏

‏{‏فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا‏}‏ أي‏:‏ واعبدوه‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا نصر بن علي، أخبرني أبو أحمد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال‏:‏ أول سورة أنزلت فيها سجدة‏:‏ النجم، قال‏:‏ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفًا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أمية بن خلف‏.‏

وأخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا آدم بن أبي إياس، أخبرنا ابن أبي ذئب، أخبرنا يزيد بن عبدالله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال‏:‏ قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏والنجم‏"‏ فلم يسجد فيها‏.‏

قلت‏:‏ فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب‏.‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏

إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء‏.‏ وهو قول الشافعي وأحمد‏.‏

وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعا، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

سورة القمر

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ‏}‏ دنت القيامة ‏{‏وَانْشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبدالله بن عبد الوهاب، أخبرنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما‏.‏

وقال شيبان عن قتادة‏:‏ فأراهم انشقاق القمر مرتين‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اشهدوا‏"‏‏.‏

وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبدالله قال‏:‏ انشق القمر بمكة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ انشق القمر ثم التأم بعد ذلك‏.‏

وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبدالله قال‏:‏ ‏[‏انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ فقالت قريش‏:‏ سحركم ابن أبي كبشة، فاسألوا السُّفّار، فسألوهم فقالوا‏:‏ نعم قد رأيناه، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 3‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ‏}‏ أي‏:‏ ذاهب وسوف يذهب ويبطل من قولهم‏:‏ مر الشيء واستمر إذا ذهب، مثل قولهم‏:‏ قر واستقر، قال هذا قول مجاهد وقتادة‏.‏ وقال أبو العالية ‏[‏والضحاك‏]‏‏:‏ ‏"‏مستمر‏"‏ أي‏:‏ قوي شديد يعلو كل سحر، من قولهم‏:‏ مر الحبل إذا صَلُبَ واشتدَّ وأمررته إذا أحكمت فَتْله واستمر الشيء إذا قوي واستحكم‏.‏

‏{‏وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله عز وجل واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل‏.‏ ‏{‏وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير، ‏[‏والشر مستقر بأهل الشر‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ كل أمر من خير أو شر مستقر قراره، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار‏.‏

وقيل‏:‏ يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لكل حديث منتهى‏.‏ وقيل‏:‏ كل ما قدر كائن واقع لا محالة‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏"‏مستقر‏"‏ بكسر الراء، ولا وجه له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 7‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏مِنَ الأنْبَاءِ‏}‏ أخبار الأمم المكذبة في القرآن ‏{‏مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ‏}‏ ‏[‏متناهي‏]‏، مصدر بمعنى الازدجار، أي نهي وعظة، يقال‏:‏ زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء، وأصله‏:‏ مزتجر، قلبت التاء دالا‏.‏

‏{‏حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية ‏{‏فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ‏}‏ يجوز أن تكون ‏"‏ما‏"‏ نفيًا على معنى‏:‏ فليست تغني النذر، ويجوز أن يكون استفهامًا والمعنى‏:‏ فأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم‏؟‏ كقوله‏:‏ ‏"‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏"‏ ‏[‏يونس - 101‏]‏ و‏"‏النذر‏"‏‏:‏ جمع نذير‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ أعرض عنهم نسختها آية القتال‏.‏ قيل‏:‏ ها هنا وقف تام‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي‏}‏ أي‏:‏ إلى يوم الداعي، قال مقاتل‏:‏ هو إسرافيل ينفخ قائمًا على صخرة بيت المقدس ‏{‏إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ‏}‏ ‏[‏منكر‏]‏ فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظامًا، قرأ ابن كثير‏:‏ ‏"‏نكر‏"‏ بسكون الكاف، والآخرون بضمها‏.‏

‏{‏خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ‏}‏ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏"‏خاشعا‏"‏ على الواحد، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏خشعا‏"‏ - بضم الخاء وتشديد الشين - على الجمع‏.‏ ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والجمع والتذكير والتأنيث، تقول‏:‏ مررت برجال حسن أوجههم، وحسنة أوجههم، وحسان أوجههم، قال الشاعر‏:‏ ورجالٍ حسَنٍ أوجُهُهُم

من إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَد‏.‏

وفي قراءة عبدالله‏:‏ ‏"‏خاشعة أبصارهم‏"‏ أي‏:‏ ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب‏.‏

‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ‏}‏ من القبور ‏{‏كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ‏}‏ مُنْبَثّ حيارى، وذكر المنتشر على لفظ الجراد، نظيرها‏:‏ ‏"‏كالفراش المبثوث‏"‏، ‏[‏القارعة - 4‏]‏ وأراد أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها، كالجراد لا جهة لها، تكون مختلطة بعضها في بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 13‏]‏

‏{‏مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ مسرعين مقبلين ‏{‏إِلَى الدَّاعِي‏}‏ إلى صوت إسرافيل ‏{‏يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ يوم صعب شديد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قبل أهل مكة ‏{‏قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا‏}‏ نوحًاُ ‏{‏وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ‏}‏ أي‏:‏ زجروه عن دعوته ومقالته بالشتم والوعيد، وقالوا‏:‏ ‏"‏لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين‏"‏ ‏[‏الشعراء - 116‏]‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى‏:‏ ازدجر أي‏:‏ استطير جنونًا‏.‏

‏{‏فَدَعَا‏}‏ نوح ‏{‏رَبَّه‏}‏ وقال ‏{‏أَنِّي مَغْلُوبٌ‏}‏ مقهور ‏{‏فَانْتَصِرْ‏}‏ فانتقم لي منهم‏.‏

‏{‏فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ‏}‏ مُنْصَبّ انصبابًا شديدًا، لم ينقطع أربعين يومًا، وقال يمان‏:‏ قد طبق ما بين السماء والأرض‏.‏

‏{‏وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ‏}‏ يعني ماء السماء وماء الأرض، وإنما قال‏:‏ ‏"‏فالتقى الماء‏"‏ والالتقاء لا يكون من واحد، إنما يكون بين اثنين فصاعدًا؛ لأن الماء يكون جمعًا وواحدًا‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري‏:‏ فالتقى الماآن‏.‏ ‏{‏عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‏}‏ أي‏:‏ قضى عليهم في أم الكتاب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ قدر الله أن يكون الماآن سواء فكانا على ما قدر‏.‏

‏{‏وَحَمَلْنَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ نوحًا ‏{‏عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ‏}‏ أي سفينة ذات ألواح، ذكر النعت وترك الاسم، أراد بالألواح خشب السفينة العريضة ‏{‏وَدُسُرٍ‏}‏ أي‏:‏ المسامير التي تشد بها الألواح، واحدها دِسَارٌ ودسيرٌ، يقال‏:‏ دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الدُّسر صدر السفينة سميت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجؤها، أي تدفع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي عوارض السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ أضلاعها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الألواح جانباها، والدسر أصلها وطرفاها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 17‏]‏

‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي‏:‏ بمرأى منا‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ بحفظنا، ومنه قولهم للمودَّع‏:‏ عين الله عليك‏.‏ وقال سفيان‏:‏ بأمرنا ‏{‏جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ‏}‏ ‏[‏قال مقاتل بن حيان‏]‏‏:‏ يعني‏:‏ فعلنا به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابًا لمن كان كفر به وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، وقيل‏:‏ ‏"‏مَنْ‏"‏ بمعنى ما أي‏:‏ جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم، أو جزاء لما ‏[‏صنع‏]‏ بنوح وأصحابه‏.‏ وقرأ مجاهد‏:‏ ‏"‏جزاء لمن كان كَفَرَ‏"‏ بفتح الكاف والفاء، يعني كان الغرق جزاءً لمن كان كفر بالله وكذب رسوله‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ ‏[‏الفعلة التي‏]‏ فعلنا ‏{‏آيَةً‏}‏ يُعْتَبَر بها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد السفينة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أبقاها الله ‏[‏بباقر دي‏]‏ من أرض الجزيرة‏.‏ عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ‏{‏فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ أي‏:‏ متذكر متعظ معتبر خائف مثل عقوبتهم‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود عن قوله‏:‏ ‏"‏فهل من مدكر‏"‏ أو مذكر‏؟‏ قال‏:‏ سمعت عبدالله يقرؤها ‏"‏فهل من مدكر‏"‏، وقال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها‏:‏ ‏"‏فهل من مدكر‏"‏ دالا‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ أي‏:‏ إنذاري‏.‏ قال الفراء‏:‏ الإنذار والنذر مصدران، تقول العرب‏:‏ أنذرت إنذارًا ونذرًا، كقولهم أنفقت إنفاقًا ونفقةً، وأيقنت إيقانًا ويقينًا، أقيم الاسم مقام المصدر‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا‏}‏ سهلنا ‏{‏الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ‏}‏ ليتذكر ويعتبر به، وقال سعيد بن جبير‏:‏ يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن ‏"‏فهل من مدكر‏"‏، متعظ بمواعظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 25‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا‏}‏ شديدة الهبوب ‏{‏فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ‏}‏ شديد دائم الشؤم، استمر عليهم بنحو سنة فلم يُبْقِ منهم أحدًا إلا أهلكه‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر‏.‏

‏{‏تَنزعُ النَّاسَ‏}‏ تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم‏.‏ وروي أنها كانت تنزع الناس من قبورهم ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أصولها، وقال الضحاك‏:‏ أوراك نخل‏.‏ ‏{‏منقعر‏}‏ ‏[‏منقطع‏]‏ من مكانه ساقط على الأرض‏.‏ وواحد الأعجاز عجز، مثل عضد وأعضاد وإنما قال‏:‏ ‏"‏أعجاز نخل‏"‏ وهي أصولها التي قطعت فروعها؛ لأن الريح كانت تبين رؤوسهم من أجسادهم، فتبقى أجسادهم بلا رؤوس‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ‏}‏ بالإنذار الذي جاءهم به صالح‏.‏

‏{‏فَقَالُوا أَبَشَرًا‏}‏ آدميًا ‏{‏مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ‏}‏ ونحن جماعة كثيرة وهو واحد ‏{‏إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ‏}‏ خطأ وذهاب عن الصواب ‏{‏وَسُعُر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عذاب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ شدة عذاب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عناء، يقولون‏:‏ إنا إذًا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته‏.‏ قال سفيان ابن عيينة‏:‏ هو جمع سعير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ جنون، يقال ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هائمة على وجهها‏.‏ وقال وهب‏:‏ وسُعُر‏:‏ أي‏:‏ بعد عن الحق‏.‏

‏{‏أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْه‏}‏ أأنزل الذكر الوحي ‏{‏مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ‏}‏ بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة، ‏"‏والأشر‏"‏‏:‏ المرح والتجبُّر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 31‏]‏

‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَعْلَمُونَ‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة‏:‏ ‏"‏ستعلمون‏"‏ بالتاء على معنى قال صالح لهم، وقرأ

الآخرون بالياء، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَدًا‏}‏ حين ينزل بهم العذاب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني يوم القيامة‏.‏ وذكر ‏"‏الغد‏"‏ للتقريب على عادة الناس، يقولون‏:‏ إن مع اليوم غدًا ‏{‏مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ‏}‏ أي‏:‏ باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا، وذلك أنهم تعنتوا على صالح، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ‏}‏ محنة واختبارًا لهم ‏{‏فَارْتَقِبْهُمْ‏}‏ فانتظر ما هم صانعون ‏{‏وَاصْطَبِرْ‏}‏ واصبر على ارتقابهم، وقيل‏:‏ على ما يصيبك من الأذى‏.‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ‏}‏ وبين الناقة يوم لها ويوم لهم، وإنما قال بينهم لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غَلَّبت بني آدم على البهائم ‏{‏كُلُّ شِرْبٍ‏}‏ نصيب من الماء ‏{‏مُحْتَضَرٌ‏}‏ يحضره من كانت نوبته، فإذا كان يومها حضرت شربها، وإذا كان يومهم حضروا شربهم، وحضر واحتضر بمعنى واحد، قال مجاهد‏:‏ يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة، فإذا جاءت الناقة حضروا اللبن‏.‏

‏{‏فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ‏}‏ وهو قدار بن سالف ‏{‏فَتَعَاطَى‏}‏ فتناول الناقة بسيفه ‏{‏فَعَقَرَ‏}‏ أي‏:‏ فعقرها‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ ثم بين عذابهم فقال‏:‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد صيحة جبريل عليه السلام ‏{‏فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجرة والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم صاروا كيبس الشجر إذا تحطم، والعرب تسمي كل شيء كان رطبًا فيبس‏:‏ هشيمًا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كالعظام النخرة المحترقة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو التراب الذي يتناثر من الحائط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32 - 37‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا‏}‏ ريحًا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى وقال الضحاك‏:‏ يعني صغار الحصى‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏الحصباء‏"‏ هي الحجر الذي دون ملء الكف، وقد يكون الحاصب الرامي فيكون المعنى على هذا‏:‏ أرسلنا عليهم عذابًا يحصبهم أي‏:‏ يرميهم بالحجارة، ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إِلا آلَ لُوطٍ‏}‏ يعني لوطًا وابنتيه ‏{‏نَجَّيْنَاهُمْ‏}‏ من العذاب ‏{‏بِسَحَرٍ‏}‏‏.‏

‏{‏نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا‏}‏ أي‏:‏ جعلناه نعمة منا عليهم حيث أنجيناهم ‏{‏كَذَلِك‏}‏ كما أنعمنا على آل لوط ‏{‏نَجْزِي مَنْ شَكَرَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ من وَحَّدَ الله لم يعذبه مع المشركين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ‏}‏ لوط ‏{‏بَطْشَتَنَا‏}‏ أخذنا إياهم بالعقوبة ‏{‏فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ‏}‏ شكوا بالإنذار وكذبوا ولم يصدقوا‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ‏}‏ طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه ‏{‏فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ‏}‏ وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط وعالجوا الباب ليدخلوا، قالت الرسل ‏[‏للوط‏]‏‏:‏ خَلِّ بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه بإذن الله فتركهم عميًا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب، فأخرجهم لوط عميًا لا يبصرون‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فطمسنا أعينهم‏"‏ أي‏:‏ صيرناها

كسائر الوجه لا يُرى لها شق، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل، فقالوا‏:‏ قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا، فلم يروهم فرجعوا‏.‏ ‏{‏فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ما أنذركم‏]‏ به لوط من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً‏}‏ جاءهم وقت الصبح ‏{‏عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ‏}‏ دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة، وقيل‏:‏ عذاب حق‏.‏

‏{‏فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ‏}‏ يعني‏:‏ موسى وهارون عليهما السلام، وقيل‏:‏ هي الآيات التي أنذرهم بها موسى‏.‏

‏{‏كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا‏}‏ وهي الآيات التسع ‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ‏}‏ بالعذاب ‏{‏أَخْذَ عَزِيزٍ‏}‏ غالب في انتقامه ‏{‏مُقْتَدِر‏}‏ قادر على إهلاكهم، لا يعجزه ما أراد، ثم خَوَّف أهل مكة فقال‏:‏

‏{‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ‏}‏ أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون‏؟‏ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي‏:‏ ليسوا بأقوى منهم ‏{‏أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ‏}‏ العذاب ‏{‏فِي الزُّبُرِ‏}‏ في الكتب، أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نحن جميع أمرنا ‏[‏منتصر‏]‏ من أعدائنا المعنى‏:‏ نحن يد واحدة على من خالفنا منتصر ممن عادانا، ولم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏سنهزم‏"‏ بالنون ‏"‏الجمع‏"‏ نصبٌ وقرأ الآخرون بالياء وضمها، ‏"‏الجمع‏"‏ رفع على غير تسمية الفاعل، يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏

يعني‏:‏ الأدبار فَوَحَّد لأجل رؤوس الآي، كما يقال‏:‏ ضربنا منهم الرؤوس وضربنا منهم الرأس إذا كان الواحد يؤدي معنى الجمع، أخبر الله أنهم يولون أدبارهم منهزمين فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبدالوهاب، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبته يوم بدر‏:‏ ‏"‏اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم‏"‏، فأخذ أبو بكر بيده، فقال‏:‏ حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول‏:‏ ‏"‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 48‏]‏

‏{‏بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ‏}‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏"‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏"‏ كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول‏:‏ ‏"‏سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم‏"‏ جميعًا ‏"‏والساعة أدهى وأمر‏"‏ أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من الأسر والقتل يوم بدر‏.‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ المشركين ‏{‏فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ‏}‏ قيل‏:‏ ‏"‏في ضلال‏"‏ بعد عن الحق‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ‏"‏وسعر‏"‏ أي‏:‏ نار تسعر عليهم‏:‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ضلال‏"‏ ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، ‏"‏وسعر‏"‏‏:‏ نار مسعرة، قال الحسين بن الفضل‏:‏ إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في عناء وعذاب‏.‏

ثم بين عذابهم فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ‏}‏ يجرون ‏{‏فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ‏}‏ ويقال لهم ‏{‏ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ أي‏:‏ ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ، قال الحسن‏:‏ قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له‏.‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي، أخبرنا أبو ‏[‏معشر‏]‏ يعقوب بن عبدالجليل بن يعقوب، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب، أخبرنا أحمد بن نصر النيسابوري، أخبرنا عبدالله بن الوليد العدني، أخبرنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏إن المجرمين في ضلال وسعر‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي الخدشاهي، أخبرنا عبدالله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي، أخبرنا يونس بن عبدالأعلى الصدفي، أخبرنا عبدالله بن وهب، أخبرني أبو هانيء الخولاني عن أبي عبدالرحمن ‏[‏الحبلى‏]‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال‏:‏ وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاووس اليماني قال‏:‏ أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ ‏"‏كل شيء بقدر الله‏"‏، قال‏:‏ وسمعت عبدالله بن ‏[‏عمر‏]‏ رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبدالله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو جعفر

محمد بن علي بن دحيم الشيبابي، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، أخبرنا يعلى بن عبيد، ‏[‏وعبيدالله‏]‏ بن موسى وأبو نعيم عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع‏:‏ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر - زاد ‏[‏عبيدالله‏]‏‏:‏ خيره وشره‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال‏:‏ عن ربعي عن عليّ ولم يقل‏:‏ عن رجل، وهذا أصح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 53‏]‏

‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏{‏وَاحِدَة‏}‏‏.‏ يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي‏:‏ وما أمرنا إلا مرة واحدة وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة‏:‏ كن فيكون لا مراجعة فيها كلمح بالبصر‏.‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر وقال الكلبي عنه‏:‏ وما أمرنا لمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ‏}‏ أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة‏.‏

‏{‏فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ متعظ يعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر‏.‏

‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ‏}‏ يعني فعله الأشياع من خير وشر ‏{‏فِي الزُّبُرِ‏}‏ في كتاب الحفظة، وقيل‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ‏}‏ من الخلق وأعمالهم وآجالهم ‏{‏مُسْتَطَرٌ‏}‏ مكتوب، يقال‏:‏ سطرت واستطرت وكتبت واكتتبت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 55‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ‏}‏ بساتين ‏{‏وَنَهَرٍ‏}‏ أي أنهار، ووحَّده لأجل رؤوس الآي، وأراد أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني في ضياء وسعة ومنه النهار‏.‏ وقرأ الأعرج ‏"‏ونُهُر‏"‏، بضمتين جمع نهار يعني‏:‏ نهارًا لا ليل لهم‏.‏

‏{‏فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ‏{‏عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ‏}‏ ملك قادر لا يعجزه شيء‏.‏ قال ‏[‏جعفر‏]‏ الصادق‏:‏ مدح الله المكان بالصدق فلا يُقْعِد، فيه إلا أهل الصدق‏.‏